loader
...
1

دور اللغة العربية في نقل ألفاظ الحضارة

489
28/03/2024
كانت اللغة العربية قبل الإسلام لغة شعرٍ ونثرٍ ، لا تتجاوزهما إلى فنونٍ أو إبداعاتٍ أُخرى، فحباها الله سبحانه من بين اللغات بمنزلة عظيمة ،إذ جعلها لغة لأجلّ كتبه  وآخرها، فقال سبحانه: ” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ “.
جاء في تفسير ابن كثير: ” وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها   وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس; فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات على أشرف الرسل   بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة ، وهو رمضان ، فكمل من كل الوجوه ” .
واللغة تُشّكل وعاء الفكر، والمُظهر له. فلولا اللغة لبقيت المعارف كامنة في الأذهان  متحجرة فيها، لا ينتفع بها، ولا يستضاء بنورها. ولطالما مثلت اللغة العربية مُقوّمًا أساسيًا من مقومات الحضارة العربية ؛ وذلك لاحتفاظها بمجموعة من الخصائص كانت ولا زالت تميزها عن غيرها من اللغات السّامية، من حيث احتفاظها بحرف الضاد، بالإضافة إلى خصائصها الأسلوبية، والتركيبية، والمعجمية التي تتيح لأبنائها إمكانيات عديدة من التأليف والاختيار ومن هذه المؤلّفات والمُصنّفات ” معاجم المصطلحات “، والتي واكبت التطوّر التكنولوجي والحضاري في عصور النهضة  وكشفت عن قدرة اللغة العربية على استيعاب المفردات والمصطلحات التي رافقت نشأتها ، ومن الذين انصبّ جُهدهم لإبراز هذه الحقيقة رفاعة الطهطاوي – إمام النهضة – فقد أُرسل رفاعة مع البعثة المصريّة لتوجيه طلابها إلى طريق الاستقامة وتحذريهم من الانزلاق في براثين الرّذيلة التي تعصف بالمجتمع الفرنسي المنفتح على نفسه، لكنّه عاد في سنة (1831م) ليؤم العالم العربي والإسلامي في تخطّي عصور الانحدار، والظلام  والولوج إلى رحاب عصور النهضة والتنوير، حتى عُدّ ” رائد الفكر العربي الحديث ” .
إنّ مُساهمة رفاعة الطهطاوي في إيجاد مصطلح عربي مناسب للتعبير عن مخرجات الحضارة الغربية التي وفدت على البلاد العربية . وإدراكه  للحاجة إلى معجم اصطلاحي مماثل للمعاجم الفرنسيّة ، دفعت الطهطاوي إلى وضع قوائم بالمفردات   والمصطلحات العلمية سماها ” معاجم صغيرة ” وضعها في بداية الكتب التي ترجمها أو في خاتمتها  ومن هذه الكتب التي حوت مثل تلك القوائم :
أولاً : كتاب” قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل ، والأواخر” .
أخرجه الطهطاوي  سنة 1833 م، ووضع في أول الكتاب ” قاموساً ” مُؤلّفاً من مئةٍ وأربعِ صفحاتٍ، بينما بلغ عدد صفحات الكتاب نفسه مئة واثنتي عشرة صفحة. وهذا يُظهر أن المادة المعجمية تساوي في حجمها متن الكتاب نفسه تقريباً . جاء في سابقة الكتاب ” شرح الكلمات الغريبة, التي توجد في كتاب قلائد المفاخر في غريب الأوائل والأواخر، مرتبة على حروف المعجم ، مضبوطة حسب الإمكان، ومفسرة على الوجه الأتم، سواء كانت أسماء بلدان, أو أشخاص،أو أشياء.
ولما كانت هذه الألفاظ في الأغلب أعجمية ، فلم تُرتّب إلى الآن في كتب اللغة العربية ، وكان يتوقّف فهم هذا الكتاب عليها،عرّبناها بأسهل ما يمكن التلفظ به فيها على وجه التقريب، حتى يمكن أن تصير على مدى الأيام دخيلة في لغتنا كغيرها  من الألفاظ المعرّبة عن الفارسية ، واليونانية ”  
ثانياً :  كتاب ” مبادئ الهندسة “
أصدره رفاعة في عام 1834م، وضمّنه في أوله مُعجماً مُشتملاً على بعض المصطلحات الهندسية وتفسيرها ، لتعم به الفائدة ، وينتفع به الجميع.
ثالثًا : كتاب التعريفات الشّافية لمريد الجغرافيا  “
انتهى رفاعة من تأليفه سنة 1835 م ، ويقع هذا الكتاب في جزأين ، أرفق في نهاية الجزء الثاني جدولاً للألفاظ الاصطلاحية المستعملة في الجغرافيا  بأنواعها في   
(39) صفحةً مرتبة على حروف المعجم .
ومن أجل تحقيق ذلك انتهج الطهطاوي منهجًا يقوم على ما يلي :
1- توظيف المفردات العربية الفصحى القديمة (مصطلحات كتب التراث)  للدلالة على معان ٍجديدة ٍ. ومن ذلك ما صنعه الطهطاوي من استعمال لفظة ” الشريعة ” للدلالة على ” القانون” إذ يقول : ” وسائر الفرنسيون مستوون  قُدّام الشريعة “
2-الاستفادة من المصطلحات العلمية التي أوجدها علماء المسلمين إبّان العصور الإسلامية الزاهرة، واستخدموها في مؤلفاتهم . ومن ذلك مصطلح ” علم الكيمياء ”  وعرّفه بقوله : ” المُراد بالكيمياء: معرفة تحليل الأجزاء، وتركيبها . ويدخل تحتها أمور كثيرة كصناعة البارود والسكر”. والكيمياء قال عنها الخوارزمي : ” «اسم هذه الصناعة، الكيمياء، وهو عربي، واشتقاقه من، كمى يكمي، إذا ستر وأخفى، ويقال: كمى الشهادة يكميها، إذا كتمها.»
ويعلّق محمد عمارة على جهد الطهطاوي في البحث عن المصطلحات بقوله : ” أدى عمله هذا إلى بعث مفردات اللغة العربية العلمية ، والفنية، القديمة ، وتزويدها بالجديد الذي ليس في خزائن مفرداتها ” . 
 رحم الله رفاعة الطهطاوي ، وأثابه عن العربية وأهلها خير الجزاء.  
                          كتبه الدكتور : صابر أبو صعيليك .               
بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية 18/12/ 2023 م
 

جامعة إبن سينا